عنى الإسلام بالصداقات الخاصَّة؛ لما لها من أثر عميق في توجيه النفس والعقل، ولما لها من نتائج مهمَّة فيما يصيب الجماعة كلها من تقدُّم أو تأخُّر، ومن قلق أو اطمئنان.
والإسلام شديد الحرص على أن تكون شعائره العظمى مثابةً يلتقي المسلمون عندها؛ ليتعاونوا على أدائها، مما يشير إلى رغبة الإسلام في تكثير سواد المسلمين، ورؤيتهم حشودًا متضاعفة لا فُرادى منقطعين. وكل اعتزالٍ عن الأُمَّة يفوِّت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو يضعف من شأن الإسلام أمام خصومه، إنما هو جريمة ولا يُقبل من صاحبه عذر.
وعلى المسلم أن يقسِّم وقته بين الخلوة النافعة والاختلاط الحسن؛ ليخرج من الحالين بما يُصلح شأنه كله، وأول شرائط الصحبة الكريمة أن نبرأ من الأغراض، وأن تخلص لوجه الحقِّ، وأن تُولد وتكبر في طريق الإيمان والإحسان، وهو معنى الحبِّ لله؛ لذلك قال مخاطبًا المتحابِّين في الله: "مَا مِنْ رَجُلَيْنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ إِلاَّ كَانَ أَحَبُّهُمَا إِلَى اللَّهِ أَشَدَّهُمَا حُبًّا لِصَاحِبِهِ".
وقد احتفى الإسلام بهذا النوع من الصداقات النقيَّة، ورغَّب المؤمنين في إخلاصها لله، وجعل له جزيل الثواب، قال : "إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلاَلِي الْيَوْمَ؟ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلِّي".
والحب في الله لا يزعمه كل أحد، ولا يصدَّق مِن كلِّ دَعِيٍّ، وهو ليس الإعجاب بموهبة عظيم، أو استلطاف سيرة آخر، وإنما هو خاتمة مراحل تسبقه في مراقي الإيمان.
ولأن أثرَ الصديق في صديقه عميقٌ كان لزامًا على المرء أن ينتقي إخوانه، وأن يختبر حقائقهم؛ حتى يطمئن إلى معدنها، قال : "الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ؛ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ".
إن الصديق العظيم قد يقود صديقه إلى النجاح في الدنيا والفلاح في الآخرة، أمَّا الصديق الغبي المفتون فهو شؤم على صاحبه، يورده موارد الهلكة، فقد قال : "مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْمِسْكِ وَكِيرِ الْحَدَّادِ، لا يَعْدَمُكَ مِنْ صَاحِبِ الْمِسْكِ إِمَّا تَشْتَرِيهِ أَوْ تَجِدُ رِيحَهُ، وَكِيرُ الْحَدَّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ، أَوْ ثَوْبَكَ، أَوْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً".
وينبغي أن يتعارف الأصدقاء حتى يكون تواصلهم عن بيِّنة، وأن يذكر أحدهم للآخر ما يكنُّه له من إعزاز وحُبٍّ، قال : "إِذَا آخَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَلْيَسْأَلْهُ عَنِ اسْمِهِ، وَاسْمِ أَبِيهِ، وَمِمَّنْ هُوَ؛ فَإِنَّهُ أَوْصَلُ لِلْمَوَدَّةِ". إذ إن عقد الصداقة كبير القيمة، جليلُ الأثر؛ حتى إنه لَيَكُون مِظنَّة النجدة في الأزمات الطاحنة، ولو كانت هذه الأزمات النجاة من عذاب جهنم.
ونظرًا لما يرتبط بهذه الصداقات من حقوق عظام، قال رسول الله : "لاَ تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤْمِنًا، وَلاَ يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلاَّ تَقِيٌّ"